ثورة مصر الاجتماعية في نهاية عصر الدولة القديمة :
(بردية تحذيرات الحكيم "إيبور" الذى كتب عن الثورة)
يبدو أن هذه الفترة المضطربة الغامضة التي تسمى
العصر الوسيط الأول قد بدأت منذ نهاية حكم الملك بيبي الثاني، وتشمل أولاً انهيار
الملكية وقيام أول الثورات الطبقية، ثانياً: تأسيس الأسرة السابعة والثامنة،
وثالثاً: قيام الأسرة التاسعة والعاشرة وتفصل بين الوجه الأول لتاريخ مصر المتطور
والمزدهر، والوجه الثاني المظلم القائم المضطرب([1]).
ولا ريب في
أن الباحث في تاريخ مصر القديمة، حين يصل إلى "عصر الثورة الاجتماعية
الأولى"، فإن مشاكل عدة تظهر أمامه، وتحتاج إلى حل، وأن أول ما يتبادر إلى
ذهنه معرفة دوافع هذه الثورة التي قام بها المصريون ضد الوضع القائم فى بلدهم
آنذاك([2]).
تلك الثورة التي قام بها المصريون ضد مليكهم،
وهم يؤمنون بأنه مقدس، على أن الثورة في حقيقة الأمر لم تكن ضد الملك المؤله وحده،
وإنما كانت ضد النظام نفسه، ضد الفرعون وضد الكهنة، بل ضد الآلهة نفسها فضلاً عن
حكام الأقاليم([3])
، حيث ظهرت اللامركزية في آواخر عصر الدولة القديمة حيث سئمت من آلوهية
الفرعون ورفعت عنه هالة التقديس التي كان يحيط بها([4]).
وقد وصلت مصر إلى حالة سيئة للغاية في نهاية عصر الدولة القديمة وذلك نتيجة
لطول عهد الملك "بيبي" وامتداد العمر به، مما جعل الأمور تسير من سيئ
إلي أسوء، وقد حاول كبار رجال الدولة تجريد الملوك من سلطانهم، وقد نجحوا في ذلك
إلى حد كبير([5]).
فلما وصلت مصر إلى الحضيض في أواخر أيام الأسرة السادسة، وقد عمت الفوضى
البلاد، لم يجد الشعب أمامه طريقاً غير الثورة على تلك الأوضاع السيئة، وأراد الإنتقام
لنفسه، أراد الشعب أن يثور على كل الأنظمة الإدارية الفاسدة بما في ذلك الملك نفسه([6]).
وقد زاد الشقاء فى عهد الملك "ببي الثاني"، والذي خلف أخوه
"مرنرع"، ولا بد أن الملك الجديد لم يكن سوى صبي فى وقت توليه الحكم،
حيث ذكرت بردية تورين على أنه قد حكم أكثر من تسعين عاماً([7]).
الملك ببي الثاني (نفر
كا رع):
الملك "ببي الثاني" هو أحد ملوك الأسرة السادسة في تاريخ مصر
الفرعوني، وقد تولى الحكم من بعد أخوه "مري ان رع"، وبمناسبة جلوس
"ببي الثاني" على العرش في طفولته كانت مدة حكمه طويلة فقد ذكر
"مانيتون" أن هذا الملك تولى الحكم في السنة السادسة وعاش مائة سنة([8])،
وأن أمه كانت وصية عليه، كما كان خاله الأمير "جاو" وزيره في نفس الوقت،
وكان صاحب اليد العليا في تصريف أمور البلاد([9]).
وقد ارتبط اسم هذا الملك بالحملات التي كان
يرسلها إلى الجنوب بقيادة حاكم "إلفنتين" وأشهرهم "حرخوف"
و"ببي نخت" و"ميخو" "ني ساب"، كما يوجد نقش خاص
بالملك بيبي يصف لنا حملة عظيمة شنها الملك بيبي ضد البدو الآسويين الذين اجتاحوا
البلاد([10]).
وكانت مصر في هذه الفترة في حاجة إلى
ملك قوى له من النفوذ والسلطان ما يكبح بهما جماح حكام الأقاليم الذين ضعف ولاؤهم
للحكومة المركزية([11]).
مما جعل الملك يقدم لهم أراضي وإقطاعيات لربط دخلها بمقابرهم مما أجهد الخزانة([12]).
وأصبح لا هم لهم إلا الحصول على مزيد من السلطة والمال دون اهتمام بأحوال رعيتهم،
ولكن الملك "ببي الثاني" لم يكن قوياً، وبالتالي لم يكن قادراً على
تصريف الأمور، وأخذ حكام الأقاليم يسلبونه سلطاته ما أمكنهم ذلك([13]).
وفي ظل هذه الظروف عمت الفوضى أرجاء البلاد، ولم يكن هناك من ضحية سوى
العامل والفلاح، والذين ذاقوا الأمرّين، وما أن واتتهم الفرصة للتعبير عما تجيش به
صدروهم، حتى قاموا بثورة اجتماعية عارمة، رافضين كل ما في المجتمع من ظلم وفساد([14]).
هذا وبعد وفاة "بيبي الثاني" فقد خلفه على العرش ابنه الأكبر
"مرنرع الثاني" الذي يبدو أن حكم لمدة عام واحد فقط، وقد خلف العرش من
بعده ملكة وهي "نيتوكريس"، ومن هذه النقطة فإن التاريخ يتحول إلى
اسطورة، حيث يقال أن "نيتوكريس" قد انشغلت بالإنتقام من الغوغاء الذين
قتلوا أخيها "مرنرع"، ثم يقال أن "نيتوكريس" قد انتحرت بعد
ذلك([15]).
أسباب الثورة:
وليس هناك
ريب في أن القوم لم يصلوا إلى هذا الشعور من الغضب ضد كل مقدساتهم إلا حين وصلت
حالة البلاد ـ في أواخر عصر الأسرة السادسة ـ إلى الحضيض، نتيجة عوامل شتى ـ
إقتصادية وإجتماعية وسياسية ونفسية ـ وكان الوعي الشعبي وقت ذاك قد وصل إلى درجة
دفعت الثائرين إلى القيام بثورتهم، وبالتالي يمكن حصر أسباب الثورة في خمسة أسباب([16])
:
أولاً: الأسباب
الإقتصادية:
ونجد أن
العامل الإقتصادي كان له دوره الفعال بجانب العوامل الأخرى في الضعف الذي هدد كيان
الدولة المصرية وأجمل عدة أسباب منها عبء تشييد مبان تهدد اقتصاد الدولة مثل قيام
كل ملك جديد ببناء مقبرة له وتخصيص المخصصات والأوقاف الدائمة على مقابر الملوك
والملكات والأمراء، الأمر الذي يحرم الدولة من جزء كبير من الدخل نتيجة حرمانها من
هذه الأوقاف([17]).
كذلك احتمال
إنقطاع الموارد التي كانت تأتي من التجارة الخارجية وخاصة عندما عجز الملوك عن
توفير الأمن والإستقرار في البلاد والأنحاء البعيدة في بلاد النوبة والسودان
وغيرها مما كان له أثره السيئ على مصر إقتصادياً وسياسياً، هذا بالإضافة إلى
محاولة الملوك كسب رضاء وتأييد حكام الأقاليم المختلفة مما أجهد من الإقتصاد
المصري كثيراً([18])،
وسنتحدث عن تلك العوامل بشئ من التفصيل.
1: بناء المقابر وتتمثل في
بناء الملوك للمعابد والمقابر الضخمة التي تستهلك الإقتصاد المصري، حيث كان كل ملك
مصري يعتلي العرش في تلك الأثناء يقوم ببناء هرم له كان الغرض منه هو تخليد اسم
الملك، وكانت هذه الأهرام تبنى واحد بعد آخر في كل جيل، ولقد كان بناء الأهرامات
وغيرها من المباني الدينية نتيجة سطوة الدين على المصريين وأثره في حياتهم
وتفكيرهم ـ وكان ولا يزال وسيظل ـ أكبر قوة في حياة الإنسان([19]).
غير أن هذه
العقيدة المصرية القديمة وما نتج عنها من مبان ضخمة هائلة أرهقت الإقتصاد القومي،
وألقت عبئاً ثقيلاً على خزائن الدولة، وإذا صدقنا رواية هيرودوت من أن بناء الهرم
الأكبر استغرق عشرين عاماً، عمل فيه مائة ألف رجل كان يستبدل بهم غيرهم كل ثلاثة
شهور، وأن بناء طريق مرتفع لنقل الأحجار التي استخدمت في بناء الهرم نفسه إنما
استغرق عشر سنوات، وأن هذا العمل لا يقل مشقة عن بناء الهرم نفسه([20]).
إذا صدقنا
بذلك وأضفنا عليه أن سنة ملوك الدولة القديمة إنما كانت بناء الأهرامات، حتى بلغ
مجموع ما في مصر من أهرام أكثر من سبعين هرماً نعرف أماكنها، ويصعب على أى إنسان
أن يذكر تقديراً صحيحاً لما عساه أن يكون ما يزال مدفوناً منها تحت رمال الصحراء،
لظهر لنا أى عبء ألقى على خزانة الدولة، ومع ذلك فقد ظلت هذه العادة متسلطة على
عقول القوم وعقائدهم([21]).
حتى
أننا نرى في الأسرة السادسة ـ رغم ضعف ملوكها ونقص مواردها ـ فقد صار ملوكها على
سنة أسلافهم من الفراعين العظام في بناء أهرامات يدفنون فيها، بل أن "ببي الثاني"
والذي وصلت البلاد في عهده إلى مرحلة تنذر بالخطر ـ لم يكتف ببناء هرم له، وإنما
بني إلى جانب مجموعته الهرمية أهراماً ثلاث لثلاثة ملكات من زوجاته([22]).
وهكذا اهتم
الفراعين في عهد الدولة القديمة ببناء الأهرامات اهتماماً بالغاً، وقد كلف ذلك
خزانة الدولة ما لا تطيق([23])،
وكانت الخزانة يطلق عليها "شونة الغلال" وكان يقع على عاتق الخزانة
مسئولية إدارة مجمل الإقتصاد وتحديداً تحصيل الضرائب([24])،
وقد وصلت الخزانة في أخريات عهد الدولة القديمة، عندما وصلت مواردها إلى حد أن
أصبحت حكومتها شبه عاجزة عن تنفيذ أوامرها، وممارسة حقوقها، وتحمل تبعاتها، ومع
ذلك لم ينس الفراعين أن يقيموا لأنفسهم أهراماً بدفنون فيها، مما أرهق الشعب أيما
إرهاق([25]).
2:وكان
السبب الإقتصادي الثاني هو ذلك العبء الناتج عن هبات دائمة للصرف
منها على مقابر الملوك والملكات فضلاً عن الأمراء والنبلاء([26])،
ومن ثم فقد كان الملوك يبدون جزء من الأراضي عن حظيرة الإقتصاد الطبيعي وإلقاء
تبعات ثقيلة على الأراضي الأخرى([27])،
وكانت تلك الأوقاف تبلغ مقداراً كبيراُ من المال([28])،وليت
الأمر اقتصر على ذلك، بل إن أمراء الأقاليم قد نحتوا قبورهم في صخور أقاليمهم ـ
وخاصة في مصر العليا والوسطى ـ وكان ذلك عبئاُ جديداً على الخزينة([29]).
وأما ثالث
الأسباب الإقتصادية ، فهو محاولة الملوك كسب رضاء وتأييد حكام الأقاليم
المختلفة مما أدي إلى ازدياد روح الثقة بالنفس بين هؤلاء الحكام فاعتبروا أنفسهم
إما سادة الإقليم أو موظفي الملك تبعاً لقوة أو ضعف الملكية، وفي الوقت الذي كان
فيه ميراث الوظيفة والمكانة منحة دينية من الملك الإله الذي يملك كل شيء بما في
ذلك عالم الآخرة، فإن هذه المنحة أصبحت حق سياسي ([30]).
وذلك نتيجة
ضعف الملوك وبالتالي أصبح حكام الأقاليم ملوك على مصر أو إذا شئنا الدقة على جزء
كبير من أقاليم مصر كما أصبح حاكم الإقليم رغم مظاهر التقرب والخضوع الإسمي لملك
البلاد يحكم الإقليم ويجمع حوله الحاشية حسب توليه حكم الإقليم كما لو كان ملكاً([31])،
إضافة إلى ذلك فإن ضعف الملوك قد سمح بأن يورث حكام الأقاليم سلطاتهم إلى أبنائهم([32]).
وقد أخذت
الأحوال تزداد سوءاً بسبب تصرفات أمراء المقاطعات الذين أخذوا بكل هذا النفوذ
يحاكمون الملوك في كل شئ، إذ أصبح أمير الإقليم يلقب نفسه " بالحاكم
الأعظم" و " الكاهن الأكبر للإله المحلي" و "قائد الفرقة
الحربية المحلية"، أي أن حاكم الإقليم أصبح يجمع في يده كل السلطة في إقليمه([33]).
كما اتخذ
الأمراء لهم القصور الفخمة والمقابر الكبيرة التي أقاموها في أقاليمهم بعد أن كان
مستقرهم دائماً حول الملك في العاصمة منف، وبلغت بهم الجرءة حد تأريخ الحوداث بسنة
حكمهم كما يفعل الملوك، أى أن أمراء الأقاليم أخذوا ينازعون الملك السلطة([34]).
كذلك لجأ
الملوك في النصف الثاني من عهد الدولة القديمة إلى محاولة كسب وتأييد الكهنة إلى
جانبهم عن طريق الإكثار من بناء المعابد لهم ووقف الأوقاف عليها وإصدار الأوامر
الملكية بخصوص الإعفاءات الممنوحة لها، وتشير هذه الإعفاءات والمنح من جانب إلى
حرمان الخزانة الملكية من جزء غير قليل من دخلها وأيضاً زيادة في الثروة والنفوذ
والقوة لهذه الفئات التي إستغلت ضعف الملوك من أجل مصالحها الذاتية([35]).
4:وأما رابع
الأسباب الإقتصادية، فهو انقطاع أو احتمال انقطاع الموارد
التي كانت تأتي من التجارة الخارجية، والتي كانت احتكاراً ملكياً، فقد كانت مصر في
علاقات تجارية مع بلاد غربي آسيا، ومع جزر البحر الأبيض المتوسط، ومع النوبة
وليبيا وبلاد بونت، وتدلنا نصوص أواخر الدولة القديمة على وجود اضطرابات في تلك
البلاد الأجنبية التي كانت مصر تتجر معها([36]).
ثانياً: الأسباب
الإجتماعية:
شبه كثير من
الباحثين الدولة والمجتمع المصري بالهرم، ثم وضع في أعلى الهرم، هرم صغير مستقل،
ذلك الهرم يمثل الملك الذي يحكم فوق وزرائه، الذين كانوا بدورهم فوق حكام
الأقاليم، الذين كانوا بدورهم فوق عمد القرى والبلاد، ومن الناحية الدينية كان
الفرعون فوق النبلاء الذين كانوا بدورهم فوق الفنانين وصغار التجار والفلاحين([37]).
أما عن
التنظيم الديني فكان فرعون هو حلقة الإتصال الوحيدة مع الآلهة، وكان فوق الكهنة
الذين كانوا بدورهم فوق الشعب، وهذه التشبيهات الهرمية ليست في الحقيقة إلا شيئاً
واحداً، لأن كبار الموظفين والنبلاء وكبار الملاك والكهنة إنما كانوا في درجة
واحدة، فقد كانوا جميعاً يكونون الطبقة التي تلى الفرعون مباشرة، وكان ينيبهم عنه
في تأدية المهام الخاصة به([38]).
وهكذا كان
المجتمع المصري القديم يتكون في أول أمره من طبقتين بينهما فرق واضح، كبار موظفي
الدولة وأمراء الأقاليم وكبار الكهنة، ثم طبقة دنيا وهي العاملة الكادحة تتكون من
عمال الزراعة والصناعة والصيادين والملاحين والرعاة والخدم وجميع أصحاب الحرف
الذين يعملون في الخدمات العامة والخاصة([39]).
وبالتالي
نجد أن من أسباب الثورة ربما نتيجة تسلط طبقة خاصة على كل الوظائف الهامة في
البلاد، وربما نتيجة إستغلال هذه الوظائف الهامة استغلالاً سيئاً، صحيح أن مصر
نادت بالمساواة النظرية، ولكن ضعف الملوك أمام قوة حكام الأقاليم وإتجاههم نحو
النزعة الفردية، قد جعل المساواة النظرية هذه غير ذي موضوع، ومن ثم فقد ظل نظام
الطبقات المنفصلة معترفاً به حتى قيام الثورة([40]).
رابعاً: الأسباب
السياسية:
ترجع أسباب
الثورة السياسية إلى ضعف الملكية، وتخاذلها أما حكام الأقاليم، وقد بدأ هذا الضعف
منذ منتصف الأسرة الخامسة ثم اشتد في الأسرة السادسة، وخاصة على أيام الملك
"ببي الثاني" الطويلة، مما دفعه إلى أن تعيين وزيرين، أحدهما للصعيد
والآخر للدلتا أملاً في أن يساعداه على حماية عرشه، ورغم ذلك فقد استمر
الحكام في فرض الضرائب الفادحة، وامتنعوا عن توريدها إلى بيت المال([41])،
فتوقف إرسال البعثات إلى المناجم، وتجدد خطر الهجرات الأسيوية مما أدى آخر الأمر
إلى قيام الثورة([42]).
خامساً: الأسباب
النفسية:
في أخريات
الأسرة السادسة، بدأ الشعب يفقد الثقة في حاكمه فلقد أصبحت الملكية ضعيفة والكهانة
مستغلة الإقطاع ينافس الجميع في استغلاله، وهنا يحس الشعب أن عليه أن يتحرك، وهذا
التحرك هو ما قد يمكن أن نسميه الإحساس بالظلم، فالثورات تقوم عادة حين يحس الناس
بالظلم، وهذا هو ما حدث في هذه الثورة عندما أحس الشعب بالدور الذي يجب أن يقوم به
ليخلع عن رقابه ظلم الملكية وفساد الكهانة وسوء استغلال الحاكم([43])،
وكان ذلك نتيجة وعي شعبي دفع الثائرين للقيام بثورتهم.
فالشعب يثور
عادة لأنه يحس بالغبن، وهو لا يصل إلى هذه الدرجة إلا حين يرتفع لديه الوعي
والإدراك، فالشعوب الجاهلة لا تثور وإنما تقوم الثورات بين قوم يستطيعون أن يقدروا
مدي ما يحيط بهم، ويدركوا من الأمور خيرها وشرها، وليس هناك من شك في أن الشعب
المصري كان قد بلغ إذ ذاك هذه المرحلة، فأحس بوجوب تغير الأوضاع التي درج عليها
لأنها لم تعد تتفق ومطالبه الجديدة في الحرية والحياة، ولم تعد تتفق وما ينشده من
كرامة، يرى أنها جميعاً أصبحت عناصر لازمة لمقومات كيانه([44]).
سادساً: الأسباب
الخارجية:
كان للثورة
أسباباً خارجية والتي ربما كانت نتيجة للإنهيار الداخلي، مما أدى إلى التسلل
الأجنبي إلى البلاد، والذي سيطر على جزء منها فترة من الزمن، إلا أن هذا الدافع من
دوافع الثورة إنما كان أقسى دوافعها، حتى إن المصريين المعاصرين إنما كانوا يعزون
حالة الإنهيار التي أصابت البلاد، إنما كانت بسبب وجود آسيويين جامحين في الدلتا المصرية([45]).
وتضمنت نصوص الأسرة السادسة دلائل مبكرة على
هجرات وتسللات من البدو الأسيويين اخترقت الجزء الشرقي من دلتا نهر النيل أثناء
الفترة التي عرفت اصطلاحاً باسم فترة الانتقال الأول، وقد اسمى المصريون هذه
الهجرات باسم"عامو حربوشع" بمعني "بدو الرمال" وهي قبائل
القواسة([46]).
وهي
التي كانت تعيش على الرمال، والتي كانت فيماد يبدو بداية للهجرات الآمورية القديمة
التي هددت سبل التجارة بين مصر وجيرانها من جهة، وحاولت نشر الإضطراب وعبور حدود
مصر الشمالية الشرقية، وكانت اول موجة من موجات الضغط الأسيوي من جهة أخرى على مصر([47]).
ومن الواضح أن هؤلاء البدو لم يحاولوا عزو مصر
عسكرياً أو احتلالها، بل هدفوا إلى التسلل والتسرب بغية النهب والسلب، ثم السعى
إلى الاستقرار في ربوع الدلتا، وليس هناك من شك في أن سوء الأحوال السائدة في مصر
وانقسامها وضعف قدراتها الدفاعية قد شجع هؤلاء البدو على الإغارة بعد أن تعرض
الكثيرون منهم إلى ضغط شعوب آسيوية آخرى عليهم في فلسطين وما جاورها([48]).
أحداث الثورة:
يجمع المؤرخون ـ أو يكادون ـ على أن عصر الثورة الإجتماعية الأولى إنما
يشمل الأسرات من السابعة إلى العاشرة، وأنه ينتهي في أيام "منتوحتب
الأول" الذي يكتب له نجاحاً بعيد المدي في القضاء على الفوضى وإعادة توحيد
أرض الكنانة من جديد ـ كما فعل سلفه البعيد مينا من قبل ـ ويذهب "سير الن
جاردنر" إلى أن العقدة الحقيقية في الأمر عقدة تأريخية([49]).
فهناك خلاف كبير بين المؤرخين عن طول هذه الفترة، ولئن اتفقت معظم الآراء
الحديثة على تقدير الفترة من عهد الملكة " نيتو كريس" إلى نهاية حكم
الملك "منتوحتب الأول" بمأتين وخمسين عاماً، فهذا لا يعدو أن يكون مجرد
تخمين، وعلى أية حال، فهناك من يقدر عصر الثورة الإجتماعية الأولى بحوالي
"228 عاماً" في الفترة من (2280 ـ 2052 ق.م)([50]).
تعد
تلك الفترة من أهم الفترات التاريخية لما ساد فيها من روح جديدة لم يعرفها الإنسان
المصري القديم من قبل والتي نتجت عن إنقلاب الأوضاع السياسية والإقتصادية للمجتمع
وبالتالي تصدع بناء الدولة على أثر الثورة الإجتماعية([51]).
وقد
تناولت هذه الثورة العديد من الوثائق المعبرة عن الحيرة واليأس اللذين انتابا
الإنسان المصري القديم عندما رأى أن مجتمعه بما يحويه من ألهة يكن لها كل الخشوع
والتقدير وحياة مستقرة ثابتة كالأهرام في خلودها، كل هذا قد انقلب وتداعى ودبت فيه
مظاهر الضعف وانحلال([52]).
لقد
سقطت مصر في هوة عميقة من الإضمحلال بعد موت الملك بيبي الثاني فإنهار صرح الملكية
وتدهورت سلطة البلاد المركزية وبالتالي إزداد نفوذ حكام الأقاليم ـ كما ذكرنا ـ
وبدأ الشعب يفكر في الثورة ، ثورة على قدسية الملوك وقدسية الآلهة وانتشر الخوف
وساد البؤس وعم الاضطراب في جميع أنحاء البلاد([53]).
وقد صور الأوضاع السيئة التي عمت البلاد في تلك الفترة رجل مصري يسمي
"ايبور" ربما عاصر الملك "بيبي الثاني" وخلفائه الضعاف، ويبدو
أنه كان أحد المسئولين الإداريين وروايته معروفة باسم "بردية ايبور"
(شكل رقم 1) مسجله على بردية في متحف ليدن بهولندا، وقد وجدت منسوخة خلال عصر
الدولة الحديثة ونشرها العالم جاردنر([54]).
يروي النص حالة الفوضى والبؤس والشقاء وإنقلاب الأوضاع فيقول " إن
البدو حلوا محل المصريين في كل مكان وأصبحت الأرض مليئة بالعصابات حتى أن الرجل
يذهب ليحرث أرضه ومعه درعه، لقد فقد الثقة في الأمن، وعلى الرغم من الفيضان فإنهم
لم يعودا إلى الزراعة خشية اللصوص وقطاع الطرق"([55]).
ويستمر النص " لقد كثر عدد الموتى حتى أصبحت جثثهم من الكثرة بحيث
يستحيل دفنها ولذا فقد ألقيت في المياه مثل الماشية النافقة"، وعن انقلاب
الأوضاع الاجتماعية يقول " صار الذهب واللازورد والفضة والياقوت يحلي جيد
الجواري بينما تسير النبيلات يتسولن على طول البلاد"[56].
وعن انتهاك قدسية الموتى يقول " انتزعت مومياوات النبلاء وألقيت على
قارعة الطريق، وأصبح سر التحنيط جهراً" ثم يصب جام غضبه على الملك فيقول
" إن أصدقائك قد كذبوا عليك، حقاً لا تزال العدالة باقية على الأرض بإسمها
ولكن المؤسف حقاً هو الخطأ في تطبيقها([57]).
يستمر "ايبور" في غضبه قائلا " حكام البلاد لا تبلغهم أمور
البلاد، والكل في طريقه إلى الهلاك" وكان من الطبيعي إذن أن لا يكون هناك أي إحترام
لقرارات وقوانين الدولة فيقول " اقتحمت الإدارات ونهبت سجلات الإحصاء وأتلفت
سجلات كتبة الغلال، ثم تم إلقاء سجلات دار القضاء في العراء ومزقها الرعاع " ([58]).
وهناك بردية ثانية كتبت في عصر تال لعصر الثورة الاجتماعية، وكان الهدف
منها هو الدعاية السياسية للملك "أمنمحات الأول" أول ملوك الأسرة
الثانية عشرة، وأرجع حوادثها إلى عصر الملك "سنفرو"، ذلك الملك الذي طلب
من الكاهن "نفرتي" أن يتنبأ له ببعض الأحداث المستقبلية ([59]).
فقص عليه الكاهن ما سيحدث في البلاد من فوضى ويطيل في وصفها ثم يقول أخيراً
أن الذي سينقذ مصر من تلك الحالة السيئة هو ملك يدعي "أميني" هو اختصار
اسم "أمنمحات"، ويأتي هذا الملك من الجنوب وأمه نوبية ويولد في الصعيد،
كانت تلك القصة مجرد دعاية سياسية للملك أمنمحات ([60]).
لقد كانت هذه الثورة بالفعل نهاية لنظام "الماعت" المصري وهو
العدالة، ذلك النظام الذي استقر لقرون طويلة، ومما لا شك فيه أن هناك طبقات وخاصة
الوسطى والمعدمة لم تكن تستفيد من الكعكة الكبيرة وبما كانت تعمل لخدمة الملوك
والأمراء والنبلاء حتى فاض بها الكيل فثارت ([61]).
الفوضى السياسية في عصر
الثورة:
قدمت لنا الوثائق الأدبية الكثير من الأدلة على أن الشعب المصري إنما قد
قام بثورة عاتية ضد الأوضاع السياسية والإجتماعية التي اشتد فسادها، ويفهم من
الوثائق أن الثورة قامت في العاصمة "منف" في بادئ أمرها، ثم سرعان ما
انتشرت فيما ورائها من الأقاليم([62]).
وبالتالي نشبت هذه الثورة جراء هذه الأوضاع وصحبها نوع من العنف والرغبة في
الإنتقام من الأغنياء، واستغلها الغوغاء من أهل السوء، وانتشر الخارجون عن القانون
في كل مكان وظهرت الأمراض وساد عدم استقرار الأمن، وهاجر الناس من البلاد وسادت
الفوضى في كل مكان[63].
وقد رأي البعض أن عمل الثورة إنما قد اقتصر على منطقة منف، وجزء من مصر
الوسطى، وأن مصر العليا لم يصبها من الثورة سوء، وقد صاحب الثورة في بدايتها كثير
من العنف والرغبة في التفتيت والانتقام فنزع الثوار عن الملكية ما بقى لها من
قداسة، وأباحوا لأنفسهم نهب خزائنها، واقتحام دواوينها، وأضاعوا حرمة محاكمها([64]).
وقد ألقيت قوانينها في العراء ومزقها العامة في الشوارع وانتشرت الفتن
الداخلية وفقد الناس الأمن والآمان حتى خيل للقوم أن شعار الثورة ومنطقها قد أصبح
"هدم ما استطعت أن تضرب بمعولك، واقتل من تستطيع أن تقتله، وخذ كل ما تصل
اليه يدك"([65]).
وهكذا بدأت الثورة عنيفة عتية، ويبدو أنه قد أعوزتها القيادة الرشيدة، ومن
ثم فقد استغلها بعض الغوغاء، وأهل السوء ويقدم لنا الحكيم المصري
"ايبور" وصفاً لبدايتها جاء فيه " يقول حراس الأبواب: فلننطلق
ولننهب، وأعد صيادو الطيور أنفسهم للمعركة، وحمل آخرون من الدلتا الدروع"([66]).
وهكذا احتل الغوغاء مكاناً في الثورة منذ قيامها، ومن هنا فقد غلب عليها
التدمير والنهب وسفك الدماء حتى أنها لم تترك أحداً دون أن تصيبه بشرها، ويصف
"ايبور" تلك المرحلة العصيبة من تاريخ الكنانة في قوله " تدور
البلاد كما تدور رحى الفخار، حقاً إن البلاد قد امتلأت بالعصابات، لقد شحبت
الوجوه، وأصبح الرماة متحفزين في كل مكان، لقد انعدم رجل الأمن، ولكن اللصوص في كل
مكان"([67]).
وهكذا عمت الفوضى البلاد حتى شملت مخازن الحكومة، ودواوين الدولة، فمزقت
القوانين وديس عليها بالأقدام ولم ينج من تلك الفتنة الهوجاء موظفي الدولة
ومحاكمها، يقول"ايبور" "وفي الحق، لقد سلبت قاعة المحاكمة الفاخرة،
وأصبح المكان السري مكشوفاً، لقد فتحت الإدارات العامة، ونهبت قوانينها، لقد سلب
الموظفون ونهبت قوائمهم، لقد دمرت سجلات كتبة المحاصيل"([68]).
"وأصبحت غلال مصر
متاعاً مشاعاً، لقد ألقيت قوانين دار القضاء في البهو، وديست في الشوارع، ومزقها
الرعاع في الأزقة، لقد أصبحت قاعة العدل العظمي مكتظة، وأخذ القوم يروحون ويجيئون
في دور القضاء العظيمة، وضاعت هيبة الحكومة وتجرأ الناس على موظفيها فقتلوهم، وعلى
قضاتها فنفوهم، وذبح الموظفون وألقيت اوراقهم في العراء وطرد قضاة البلاد"([69]).
ويصور "نفرتي(*)"
البلاد، وقد عزّ فيها الأمن، وسادتها الحرب الأهلية، فيقول" إن البلاد في كرب
وعويل، لقد حدث ما لم يحدث من قبل، سيجعل الناس أسلحة الحرب، حتى تعبث الأرض في
قلق واضطراب، وسيصنع الناس أسلحة من النحاس حتى يلتمسوا الخبز بالدم، ويضحكوا ضحكة
الموت، لن يبكي الناس من الموت، لقد أصبح الأب خصماً، والأخ عدواً وأخذ الرجل يقتل
أباه، واختفى كل شئ طيب، وخربت البلاد ، وأصبحت أملاك الرجل تغتصب وتعطى للغريب،
وغدا المالك في حرمان والأجنبي في شبع ورفاهية"([70]).
ويضيف "ايبور" " لقد أصبح الرجل يذبح أخاه من أمه، انظر، إن
الرجل يذبح بجوار أرضه، وأخاه يتركه دون عون لينجو بنفسه، لقد أصبح الرجل ينظر إلى
ولده نظرته إلى عدوه، ويذهب إلى حقله، وهو مسلح بدرعه"، وقد انتهت هذه
الأحداث الدامية آخر الأمر إلى انهيار الحكومة المركزية، التي كان القوم يعترفون
فيها بأن "الملك ـ الإله" إنما كان هو الأقوى، ورخص السر الغامض، سر
الطبيعة الإلهية للملك من جراء التنافس على الحكم([71]).
ويقول "ايبور" "انظر: لقد وصل بنا الأمر إلى الحد الذي جعل
الناس يثورون ضد حية التاج التي كانت تهدئ الأرضين، انظر: لقد عرف سر البلاد التي
لا يعرف أحد حدودها، إن القصر الملكي يمكن أن يهدم في ساعة، وتصبح أسرار ملك مصر
معروفة"، هذا وقد امتدت الاضطرابات من منف إلى الأقاليم حيث هاجم العامة هناك
المسيطرين عليهم، وفعلوا ما فعله سكان العاصمة من تخريب وتدمير وسلب ونهب، بل نادت
كل مدينة "فلنطرد الأقوياء من بيننا، كما امتنعت بعض الأقاليم عن دفع الضرائب
إلى الخزائن الملكية، كما فعلت ثني وإليفانتين([72]).
ويزداد الأمر سوءاً وينحرف الثوار ويسيرون في طريق العنف والقوة، ويسيئون
إلى المواطنين، حتى الأبرياء منهم، بل لم تقف ثورتهم عند حد فى أذاها، حتى الأطفال
الرضع نالهم منها عذاب أليم، يقول"ايبور" "حقاً لماذا يقذفون
الجدران بأبناء النبلاء، فالأطفال الذين كان أهلهم يدعون ربهم من أجلهم، أصبحوا
يلقون فوق الأكوام"([73]).
وتنقلب الأوضاع الإجتماعية في البلاد رأساً على عقب" فيعز الأذلاء،
ويذل الأعزاء، وتكتب الحاجة على الأغنياء، ويغتني الفقراء، ويصور
"ايبور" هذه الحالة، وانقلاب أوضاع الطبقات، ويقارن بين ما كان في
الماضي، وما يحدث في ذلك الوقت، وربما كان الحكيم المصري من طبقة أرسقراطية، ولم
يكن من الهين عليه أن تزول النعمة منها إلى غيرها أقل منها منزلة([74]).
إذ يقول "انظر: لقد حدث هذا بين الناس، فمن لم يكن في قدرته أن يقيم
حجرة أصبح الآن يملك فناءً مسوراً، إن الفضيلات الشريفات يرقدن على الفراش الخشن،
والأمراء ينامون في المخزن، ومن لم يكن في إمكانه أن ينام على الجدران أصبح صاحب
سرير، انظر: إن الرجل الغني أصبح يمضى الليل وهو ظمآن ومن كان يستجدي منه الحثالة
أصبح يمتلك الجعة القوية"([75]).
وبلغ الأسى بالحيكم المصري نهايته أسفاً على ما أصاب البلاد من اضطراب لا
يعرف له علاجاً، فيفقد الأمل في إنقاذ شئ ويزداد تأثره بالكارثة التي لحقت
بالبلاد، حتى أنه يطلب من الآلهة أن تجعل نهاية الأمر، نهاية الحياة نفسها
فيقول" ألا ليت في ذلك يكون نهاية الناس، فلا يحدث حمل ولا ولادة، وليت
العالم يتخلص من الغوغاء وتمضي المشاحنات"([76]).
ويتجه بعد ذلك نحو نفسه، فيوجه اللوم إليها، ويحملها جزءاً من الوزر الذي
ارتكبه حين سكت على الشر، وامتنع عن أن يقول الحق، وتمنى أنه قال ذاك فنصح وانتصح
وأنقذ نفسه وأنقذ أمته مما تعانيه من الآلام وذلك بقوله " ليتني رفعت صوتي في
ذلك الوقت، حتى كنت أنقذ نفسي من الألم الذي أنا فيه الآن"([77]).
ولم يقتصر "ايبور" في توجيه اللوم على نفسه، بل وجه اللوم كذلك
إلى الجالس على العرش حينئذ في تقريعات قاسية، ونقد لازع، فيتهمه بأنه سبب الفوضى
والاضطرابات التي سادت البلاد، ذلك لأنه، وإن كان قد أعطى السلطة والحكمة([78]).
إلا أنه قد بقى في قصره يحيط نفسه بمجموعة
من رجاله، لا تنقل إليه إلا صورة غير حقيقية عن الأمور، حتى سائت الحال، وفقد
الناس الطمأنينة والأمن، حتى أنه إذا سار ثلاثة في الطريق فلا يعود منهم إلا
اثنان، فالعدد الأكبر يقتل منهم أقل عدداً، ثم يقص عليه بلايا الناس، وأخيراً يبلغ
به العنف أشده، حتى أنه يتمنى للفرعون نفسه أن يتذوق هذا البؤس بنفسه، وذلك حين
يقول له" ليتك تتذوق هذا البؤس بنفسك"([79]).
بدء الإنسان المصرى يتشكك فى العقائد الموروثة التى تجعل من الطرق العادية
طريقاً للخلود ووسيلة للسعادة فى الآخرة؛ وربماك كان سبب ظهور ذلك الفكر المتشكك،
ما أصاب الجبانة الملكية بالجيزة ومعابدها من خراب، ولذلك سادت الدعوة بأن يترك
الناس لأنفسهم الحرية فى أن يتمتعوا بالدنيا ما استطاعوا، فإن الشخص لا يأخذ معه
شيئاً للآخرة، فقد جاء فيها : "امرحوا ولا ترهقوا النفس هل للإنسان أن يأخذ
شيئا مم اقتناه معه"([80])،
وقد ظهر هذا المبدأ التشككى جلياً من خلال الأحداث الواردة ببردية "هاريس
الكبرى"(*) (شكل رقم 2).
الإنهيار الإقتصادي في
عصر الثورة الإجتماعية الأولى:
كانت الأحداث الدامية التي مرت بها البلاد سبباً في الأزمة الإقتصادية
الطاحنة التي صاحبت أيام الثورة الإجتماعية الأولى، ويفهم من الوثائق أن أسباب
الأزمة الإقتصادية إنما يرجع إلى عدم استتباب الأمن، والامتناع عن زراعة الأراضي،
فضلاً عن امتناع بعض الأقاليم عن دفع الضرائب، وتعطيل الصناعة، وعدم القيام
بالبعثات إلى سيناء هذا إلى جانب انقطاع التجارة الخارجية، وضياع ثروات الدلتا
التي أصبحت تحت أيدي الآسيوين([81]).
كان اضطراب الأمن في البلاد من أسباب الأزمة الإقتصادية فالناس لا يستطيعون
أن يعملوا إلا إذا كانوا آمنين على أنفسهم وأموالهم، وقد فقدوا ذلك كله إبان
الثورة، مما أدى إلى أن تعطلت الزراعة، حين امتنع الفلاحون عن زراعة الأرض، ويقول
"ايبور" "إن النيل يفيض ومع ذلك لا يقوم أحد الفلاحين بحرث الأرض،
لأن كل إنسان إنما يقول إننا لا نعلم ما سوف يحل بالبلاد"([82]).
ويؤيد المتنبئ "نفرتي" وجهة النظر التي ذهب إليها
"ايبور" وإن كان يعلل امتناع الفلاحين عن زراعة الأرض ـ بجانب اضطراب
الأمن ـ إلى عدم فيضان النيل، حيث يقول "لقد جف نيل مصر، حتى ليخوضه الناس
بالقدم، وسوف يبحث الناس عن الماء، لتمخر عبابه السفن، فإذا بهم يجدون أن الطريق
قد صار شاطئاً وأن الشاطئ صار ماء"([83]).
وربما كان "نفرتي" إنما يعني أن اضطراب الأمن إنما قد أدى إلى
عدم تطهير الترع، وحفر ترع جديدة، فضلاً عن إصلاح الأرض البور التي كثرت نتيجة
إهمال العناية بأمر الزراعة، وتحويل كثير من الأراضي الزراعية إلى أرض بور نتيجة
هجرة أصحابها لها أو تركها بدون زراعة لسبب من الأسباب وربما حدث انخفاض في النيل
في تلك السنين القاسية، فساد ذلك ـ بجانب غيره ـ عن حدوث المجاعة التى تحدث عنها
المتنبآن "نفرتي" و"ايبور"([84]).
وينتهز حكام الأقاليم فرصة الاضطرابات فيستأثر أغلبهم بثروات أقاليمهم، كما
فعل أمراء ثني وإليفانتين، يقول "ايبور" : "لماذا لم تدفع
إليفانتين وثني الضرائب، وهناك حاجة إلى الفاكهة والقمح، وكل أنواع التجارة، وكل
ما تنتجه الضياع، فما فائدة الخزانة بدون دخل"، وزاد الطين بلة، أن القليل من
الضرائب الذي كان يصل إلى الخزائن الملكية، إنما كان ملكاً مشاعاً لكل قادر على
النهب، حيث دمرت سجلات كتبة المحاصيل، وأصبحت غلال مصر ملكاً مشاعاً([85]).
كما زاد عدد الموظفين المشرفين على جمع الضرائب بحبث أصبحت موارد الدولة لا
تطيق مرتباتهم، هذا فضلاً عن قلة الإنتاج، ومغالاة في تقدير الضرائب، وتطفيف في
الكيل، يقول "نفرتي" " لقد نقصت الأرض وتضاعف حكامها، وأصبحت
الحقول عارية، ومع ذلك فضرائبها كثيرة وغلتها قليلة، كما صار المكيال كبيراً"([86]).
وكان تعطيل الصناعة من أسباب الأزمة الاقتصادية الطاحنة، فقد تسببت أحداث
الثورة وما أدت اليه من اضطراب فى الأمن إلى تعطل العاملين في الصناعة، وساهم
الأجانب في الأزمة الإقتصادية والقضاء على صناعة البلاد، فلا صانع يعمل والعدو
يحرم البلاد حرفها([87]).
وأدت الثورة الدامية إلى حرمان البلاد من دخل التجارة الخارجية التى كانت
تجني منها دخلاً كبيراً، يقول "ايبور" "ما عاد أحد يبحر إلى جبيل،
فما الذي سوف نفعله بشأن أخشاب الأرز التى اعتدنا أن نصنع منها توابيتنا، والزيوت
التي يحنط بها الأمراء التي كانت ترد إلينا من هناك، ومن كريت([88]).
كما أن استيلاء الآسيويين على الدلتا إنما قد حرم البلاد من ثروتها، يقول
"ايبور" "ما الذي جعل الأرض الحمراء (الصحراء) تنتشر في طول البلاد
وعرضها، خربت الأقاليم، وجاء قوم أجانب إلى مصر"، كما تسبب الأجانب كذلك في
عدم استغلال مناجم سيناء، ومن ثم فإننا لا نرى سوى إشارة عن بعثات أرسلت لاستغلال
بعض محاجر الصحراء الشرقية([89]).
ويصور "ايبور" أحوال البلاد الإقتصادية وانتشار المجاعات بين
الناس فيقول "لقد أصبح الناس يأكلون الحشائش، ويشربون الماء، ولا توجد فاكهة،
كما لا يوجد عشباً يأكل الطير منه، وقد أصبحت القاذورات تختطف من أفواه الخنازير،
ولم يعد أحد يقول "هذا لك فخذه بدلاً مني، لأن القوم صاروا جياعاً"([90]).
كما يقول "لقد ضاع محصول القمح واصبح القوم لا يجدون لباسا أو عطوراً
أو زيوتاً، وكل إنسان يقول لم يبق شئ وأصبحت مخازن الحكومة خاوية، وقد ألقى حراسها
على الأرض([91])،
وبالتالي تدهورت حالة البلاد الزراعية والصناعية والتجارية مما زاد من معاناة
الشعب.
قصة القروي الفصيح:
هذه القصة من أهم القصص التي تظهر لنا تسلط اصحاب المناصب الكبري (شكل رقم 3)،
وكيف أنهم يستغلون نفوزهم من اجل مصالحهم الخاصة، هذه القصة يعود أحداثها إلى
العصر الإهناسي، وهو العصر الذي يضم الأسرتين التاسعة والعاشرة، واللاتان كانتا
يحكمان من إهناسيا ببني سويف.
وهي قصة فلاح أو بالأحرى قصة احد سكان وادي النطرون، كان يكسب قوت يومه من
الإتجار بمنتجات واحته مع وادي النيل في عهد "نب كاو رع خيتي الثاني"،
وأثناء توجهه إلى العاصمة وعند نقطة تقع عند مستوى منطقة دهشور مر بضيعة يشرف
عليها موظف جشع يدعى "نمتى نخت"([92]).
وقد أوقع "تحوت نخت" هذا الفلاح المسكين في شرك كان ينطوي على
حيلة بسيطة فقط بسط "تحوت نخت" في طريق الفلاح قطعة قماش ليجبر حمار
الفلاح أن يطأ جانباً من حقل يمتلكه، وأثناء مرور الحمار اقتلع بعض عيدان الشعير
وأكلها، وقد رأى المشرف على الضيعة الفرصة سانحة لينقض على الفلاح ويقبض عليه
ويستولي على ما يحمله من خيرات([93]).
شكاوى القروي الفصيح([94]):
وقد استمر الفلاح نحو عشرة أيام يتضرح فيها إلى "تحوت نخت" لكي
يرفع الظلم الواقع عليه ولكن بدون نتيجة فاتجه إلى العاصمة لمقابلة رئيسه
"رنسي" ليعرض عليه شكواه، وفعلن قابله وهو خارج من بيته إلى النهر
ليستقل قاربه الرسمي ورجاه أن يرسل معه أحد تابعيه حتى يقص عليه قصته الحقيقية
فاستجاب "رنسي" إليه وعرف منه القصة كاملة.
وأقام "رنسي" تحقيق ضد "تحوت نخت" أمام مجموعة
الموظفين، وبدلاً من قول الحقيقة فإنهم إنحازوا ضد الحق ووقفوا إلى جانب زميلهم
وشككوا في صحة كلام ذلك الفلاح المظلوم وأتهموه بعدم الصدق والمبالغة راغبين أن
يقوم زميلهم بإرجاع ما أخذه لأن هذا الموضوع لا يستدعي أن يعاقب من أجله.
ولكن "رنسي" ظل صامتاً ولم يؤيدهم في إنحيازهم ضد الحق ولم يجب
الفلاح بشئ لينتهي الجزء الأول من القصة التي أراد الأديب أن يضمنها أراءه في
التمسك بالحق والكفاح بصبر وعزيمة حتي يتحقق، وتصوير الظلم وفاعليه والعدل
والقائمين بتحقيقه في صور محببة إلى النفس والقلب من خلال تسع شكايات.
فيبدأ الفلاح شكوته الأولى إلى "رنسي" نفسه بعبارات تحبب إليه
فعل الخير وتحقيق العدل" فيقول " إذا ابحرت إلى بحيرة العدالة فإنك
ستبحر فيها بنسيم طيب ولن يمزق الهواء قلعك وقاربك لن يبطئ ولن يحدث لصاريك أي ضرر
ومرساك لن ينكسر ولن يجرفك التيار بعيداً ولن تتذوق أضرار النهر (لن تغرق) ولن ترى
وجهاً خائفاً حتى السمك الخائف سوف يأتي إليك إليك وتحصل على أثمن طائر لأنك أب
لليتيم وزوجاً للأرملة وأخ لتلك التي نبذت ومئزر لمن لا أم له (دليلا على عدله
وشفقته) ودعني أجعل أسمك في هذه الأرض يتفق مع كل قانون طيب (عادل) وحاكم خالي من
الطمع ورجل عظيم خالي من الأخطاء من يحطم الزور (الكذب) ويأتي العدل مكانه، من
يلبي نداء المستغيث، وعندما أتحدث فهل أن تسمعني، أقم العدل أنت ممدوح بهؤلاء
الذين يحبونك، أنظر إني في عسرة"
ويتضح في سطور تلك الشكوى الأولى أن صاحبها مهذب يحاول إستعطاف من يسمعها
لرفع الظلم الذي تعرض له متخذاً من العدالة الضمان له ولكل من يسير على نهجها
النجاح في الحياة والذكرى الطيبة وهي ضمان للبعد عن الطمع والكذب وكل سوء، وعند
هذا الحد من القصة فإن "رنسي" قد أعجب بفصاحة ذلك الفلاح فعرض الأمر على
مليكه فيقول للملك:
"سيدي لقد وجدت أحد هؤلاء الفلاحين أنه حقاً بليغ وقد سرقت بضاعته،
وانظر قد حضر ليتظلم من أجل ذلك"، وعندئذ رد الملك عليه: " بحق ما تحب
أن تراني في صحة دعه هنا فترة أطول بدون أن تجيبه على شئ يقوله وعندما يتحدث إلزم
الصمت ثم أحضر لنا ما يقوله مكتوباً حتى نسمعه، ولكن مد زوجته وأولاده بأساليب
المعيشة".
وهكذا يتضح أنه في الوقت الذي عبر فيه الكاتب عن وجود فئة من الموظفين
الظالمين المستغلين لسلطتهم فإنه أحسن التعبير عن أهمية الكلام الجيد وفي هذا
دلالة على أن الفصاحة كانت من الأمور الهامة اليت تحظى بتقدير تلك الفترة وما
قبلها، أيضاً فإن من الأشياء التي يجب الإشارة إليها وتعبير من مميزات تلك الفترة
أنها لم تحرم الناس من الكلام إذا إقتضت مصلحتهم ذلك ولو كان في صورة إحتجاج.
بل وتجلت القيم في أخلاق كل من "رنسي" عندما لم يأخذ جانب زملاء
"تحوت نخت" المجافي للحق، وكذلك الملك الذي أمر بالإحسان إلى عائلة
الفلاح دون أن يعرف من هو المحسن اليه، وعلى أي حال فلقد عاد الفلاح إلى بث شكواه
وحتى الشكوى التاسعة فإنه سيصبح أكثر سخطاً وتذمراً بسبب سوء المعاملة وسف يتهم
صاحب الضيعة نفسه بعدم العدالة لأنه لم ينصفه من هذا الظلم الواضح بناء على
تعليمات الملك.
ونجد أن الملك قد أعجب إعجاباً شديداً بفصاحة الفلاح وأراد أن يستزيد
الفلاح من شكواه حتى يتمتع بجمال الخطاب الموجه إليه، ولكن عندما حذر الفلاح الملك
في شكواه التاسعة من عاقبة الظلم والتغاضي عن تحقيق العدالة، بعث إليه
"رنسي" اثنين من تابعيه لكي يحضروه وبعد أن طمأنه نتيجة خوفه لما بدر
منه من كلام وأطلعه على شكواه مكتوبة، لكي يطلع الملك عليها حيث أمره بأن يقضي في
القضية حسبما يراه فقام بتجريد "تحوت نخت" من ممتلكاته وأعطاها للفلاح
تعويضاً له عما أصابه من ظلم.
ويتضح لنا من النص الحالة الإجتماعية والسياسية وكيف رأى الإنسان المصري
القديم أن العلاج الأمثل لن يتحقق الإ بوجود حاكم صالح وطبقة من الموظفين الأمناء
وبذلك تعود العدالة إلى مكانها في نظام وطيد الأركان وهو ما جعل ذلك المتنبئ
الحكيم "نفر رهو" بعد وصفه لما آلت إليه الحالة من اضطراب وفوضى يرى
العلاج في ظهور حاكم صالح تعود به العدالة إلى ارض الوادي لأنه يحب العدل (ماعت).
الصراع ما بين طيبة
وإهناسيا:
أولا التعريف بطيبة
وإهناسيا:
1: طيبة:
طيبة هي مدينة الأقصر الحالية، عرفت في النصوص المصرية القديمة باسم
"تا ابت" أى "الحرم أو المكان المقدس"، ثم أصبحت في اليونانية
"تيباي" او "ثيباي" وهو الاسم الذي اشتقت منه كل الكلمات
الدالة على طيبة في اللغات الأوربية الحديثة، مثل (Thebes) فى اللغة الإنجليزية،
واحتفظ اسم البلدة في العربية (طيبة) وهو
نفس الاسم المصري القديم([95])،
أما عن تسمية الأقصر، فعندما فتح العرب مصر ودخلوا طيبة وجدوها مليئة بالمعابد
التي تشبة كثيراً القصور، لذلك أطلق عليها العرب اسم الأقصر.
2: إهناسيا
إهناسيا هي إحدى مدن محافظة "بني سويف"، عرفت في النصوص المصرية
القديمة باسم " نن ـ نسو" و"حت ـ نن ـ نسو" أى :الطفل الملكي،
ثم حرفت في العربية إلى إهناسيا، مع ملاحظة إضافة الألف في بداية الاسم، كما هو الحال
في معظم الأسماء ذات الأصل المصري القديم، وكانت إهناسيا مركز لعبادة الإله
"حر حري شاف" الذي ربط الإغريق بينه وبين إلههم "هرقل" لذلك
اسمى الإغريق هذه المدينة باسم "هرقليوبوليس"([96]).
ملامح الصراع الطيبي
الإهناسي:
كما ذكرنا أنه بعد وفاة الملك بيبي الثاني، فقد خلفه مجموعة من الملوك
الضعاف، وانتهى عصر الأسرة السادسة بالملكة نيتوكريس، ويذكر مانيتون أن حوالي
سبعين ملكاً قد حكموا البلاد لمدة سبعين يوماً، وهم ملوك الأسرة السابعة، ولا شك
أن هذا الرقم رقم غير حقيقي، ولكنه استخد للتعبير عن الاضطراب السياسي آنذاك([97]).
وقد
رأي المؤرخون أنه ربما اجتمع فى منف سبعون من كبار الموظفين وحاكم الأقاليم
المختلفة كانوا يتقاسمون السلطة فيما بينهم، وكونوا هيئة حاكمة أو حكومة خاصة شكلت
من مجلس شورى كانوا فيها أشباه ملوك، إذ اطلق على كل واحد من هؤلاء السبعين لقب
ملك او حاكم([98])،
ولمدة عشرين عاماً فإن عدد غير محدد من الملوك قد حاولو التمسك ببقايا الحكم في
منف وهم ملوك الأسرتين السابعة والثامنة، ولكنه كما كان واضحاً أنه كان يوجد
انهيار للحكومة المركزية([99]).
ونجد أن حكام الأسرتين التاسعة والعاشرة برزوا فى نهاية المطاف في مدينة
هيراكليوبوليس، وهي منطقة قريبة من محافظة الفيوم، وقد حكم هؤلاء الملوك الأجزاء
الشمالية والوسطى لمصر([100])،
في حقيقة الأمر أن حكام هيراكليوبوليس لم يسيطروا أبداً على الصعيد الجنوبي لمصر،
وفي ظل الصراع الطويل بين حاكم الأقاليم عندما ضعفت الملكية، فإن أسرة من حكام
طيبة قد أسست نفسها كقوة حاكمة متخذة ألقاب الملكية، وكالمتوقع فقد ظهر هؤلاء
الملوك في حيوليات الفراعنة كالأسرة الحادية عشرة([101]).
ومن تلك اللحظة فصاعداً نجد أن ولايتين متنافستين قد واجهوا بعضهم البعض،
وقد وقعت عدة حروب بينهما ودخلت مصر فيما يشبه الحرب الأهلية، وذلك لوجود حكام
يحكمون الأجزاء الوسطى والشمالية من البلاد، في نفس الوقت الذي يوجد فيه حكام
يحكمون البلاد من أجزائها الجنوبية، وقد اتخذت الحرب ما بين الشمال والجنوب عدة
مراحل([102]).
وذلك إلى أن جاء الملك الطيبي "منتوحوتب نب حبت رع" "منتو
حوتب الثاني" (شكل رقم 4)، الذي استطاع أن يهزم منافسه الإهناسي، ويعيد توحيد
البلاد تحت الحكم الطيبي، ومن هذه اللحظة تم تأسيس عصر الدولة الوسطى([103]).
انهيار الفن إبان
الثورة (شكل رقم5، 6،7،8،9،10):
هذا وقد تأثر الفن سلباً بما مر بمصر من ثورة واضطرابات، ويظهر ذلك جلياُ
من خلال التماثيل التى وجدت بمقبرة "حنو بدير البرشا"، حيث فقد الفن
رونقه، ولم يعد هناك اى اهتمام بنسب الجسم، حيث وجدت العديد من التماثيل ذات نسب
غير متناسبة، وبذلك بسبب الإضمحلال الذى حل بالبلاد فى جميع المجالات ومن بينها
الفن، وبالإضافة الى التماثيل الرديئة الصنع فقد تأثرت الكتابة بشكل ملحوظ ظهر فى
الظريقة السيئة للعلامات الكتابية.
نتائج الثورة:
هكذا ثار الشعب المصري فحطم كل شيء وانعدم النظام وانقلبت الأمور رأساً على
عقب، ولما حصل الشعب على حقوقه عاد الهدوء إلى البلاد، وبدأ كل فرد يزاول عمله ودارت
العجلة من جيد، وبذلك كتب لشعب المصري فصلاً جديداً من فصول تاريخه المجيد ([104]).
وإذا كان الجانب السلبي لهذه الثورة يتمثل فيما أصاب البلاد من دمار واضح،
فإننا لا يمكن أن نتناسى الجانب الايجابي في هذه الثورة، فبنجاح الثورة في تحقيق
أهدافها، ظهرت طبقة جديدة لا تعتمد على الحسب أو النسب بقدر ما تعتمد على
إمكاناتها المادية المحدودة وعلى قدرتها العقلية([105]).
ومن خلال هذه الثورة أمكن للمصري أن يضع الخطوط العامة لتصوره للحاكم الذي
يرعى مصالحه ن ويعبر عن آماله، وقد حدد "ايبور" مفهومه لهذا الحاكم
بقوله " من يعمل للبناء، ومن يستطيع أن يحيل النهب برداً وسلاماً، ومن ليس في
قلبه حقد"([106]).
وبذلك نجح المصري القديم في ثورته وفي تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها
الثورة، وهي العدل والمساواة والحرية، وكانت هذه الثورة نواة لعصر جديد، وهو عصر
الدولة الوسطي في مصر القديمة، وهو من العصور الهامة التي مرت بها مصر([107]).
أهم نتائج الثورة الإجتماعية:
1: خلق نوع من الوعي لدى المفكرين الذين عز عليهم أن يعجزوا عن دفع البلاء
عن البلاد وعز عليهم تنبههم إلى بوادر الخطر وأن تنتهك حرمات البلاد، وعبر
"ايبور" عن هذا الوعي حين قال "ليتني جهرت بالقول من قبل وإذن
لأنقدني ذلك من عذاب مازلت أعانيه([108]).
2: بعد انتهاء الثورة نشأت طبقة جديدة لا تعتز بحسب أو نسب بقدر ما تهتم
بالفردية وبالمجهود الفردي ويفخر الفرد فيها بأن مواطن قادر على أن يتكلم بوحي من
نفسه([109]).
3: أن أهل الفكر أصبحوا يتطلون إلى حاكم صالح وصفه "ايبور" بأنه
رجل يستطيع أن يحيل اللهيب أى النار إلى برد وسلام ويعتبره قومه راعياً للناس
أجمعين ليس في قلبه ضغينة([110]).
وهكذا كانت صورة الأوضاع في أواخر الأسرة السادسة والتي نقلها إلينا
"ايبور" الذي كان موظفاً محنكاً، عاش في أواخر حكم بيببي الثاني أو عهد
أحد خلفائه وكان ذا صلة بمناصب الدلتا ويقال أنه نجح في إبلاغ صوته إلى أهل البلاد
وأن يقابل الملك نفسه وأن يحمله هو وأعوانه ما أصاب البلاد من فوضى وانهيار([111]).
[2])) محمد بيومي مهران: الثورة الإجتماعية الأولى في مصر الفراعنة،
دار المعرفة الجامعية، الأزاريطة، السكندرية، 1999، ص237.
[32])) جان فيركوتير: مصر القديمة، ترجمة: ماهر
جويجاتي، الطبعة الأولى، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، 1993،ص87.
(*) هي بردية تتحدث عن
الثورة الإجتماعية أو الثورة الطبقية، ويحتمل أنها كتبت في أوائل الأسرة الثانية
عشرة في عهد الملك أمنمحات وهي موجودة الآن بمتحف ليننجراد في روسيا أما هدفها فهي
تعتبر كدعاية سياسية للملك الجديد حاول الكاتب فيها أن يقنع الناس بأن هناك نبوءة
من عهد الملك سنفرو مؤسس الأسرة الرابعة والذي طلب من "نفرتي" رئيس كهنة
الألهة باستت أن يحيطه علماً بما سيحدث في المستقبل فيشرح له "نفرتي"
الفوضى التي سوف تعم البلاد بعد ذلك وأخيراً ياتي ملك يدعي "أميني" وهو
اسم مختصر للملك أمنمحات الأول" مؤسس الأسرة الثانية عشرة المولود في الصعيد
من أم نوبية وينقذ البلاد من هذه المحنة.
(*) جاء بهذه البردية جزء يسمى "أغنية الضارب على العود"، وهى
محفوظة فى المتحف البريطانى تحت رقم 10060، وترجع إلى عام 1300 ق.م، كما أن لها
نسخاً أخرى ترجع لعصر الدولة الحديثة، وجدت بمقبرة "با اتون ام حب"
بسقارة، والتى ترجع إلى عصر العمارنة، وهى محفوظة بمتحف ليدن، وقام بدراستها كل من
"ماكس ميلر، وحللها برستيد، وترجمها "ارمان"، كما قامت بدراستها
م. ليشتايم، وترجمها أحمد فخرى أيضاً، وترجع اهمية هذه البردية أن تسلط الضوء على مبدأ الشك فى العقائد السائد إبان عصر الثورة الإجتماعية الأولى.
م. ليشتايم، وترجمها أحمد فخرى أيضاً، وترجع اهمية هذه البردية أن تسلط الضوء على مبدأ الشك فى العقائد السائد إبان عصر الثورة الإجتماعية الأولى.
[97])) Kathryn A. Bard: Introduction to the
Archaeology Of Ancient Egypt, BlackWell, Malden , USA ,2007,P163.
إرسال تعليق