المئذنة:
(بقلم: عماد حمدي)
لقد دار جدل حول
أصل المئذنة في الجامع كذلك الذى دار حول نشأة المحراب، والحقيقة أن المئذنة ظهرت في
المسجد النبوى في المدينة قريب من الوقت الذى ظهرت فيه في مسجد دمشق عندما قام
الوليد بن عبد الملك ببنائه سنة (87-96ه/707-714م)، وذلك في حيز معبد قديم كان
فلإله جوبيتر، وكان تخطيط المعبد مستطيل الشكل، يقوم في كل ركن من اركانه الأربعة
برج مربع وهذه الأبراج الأربعة استخدمت كمآذن لأول مرة في الإسلام، والحقيقة أن
واحداً منها هو الذى بقى سليماً، وهو الجنوبى الغربي، وقد علته مئذنة مملوكية
بناها السلطان قايتباي سنة (894ه/1488م) وكان قد بنى إزاءها في الركن الجنوبى
الشرقي مئذنة حوالى (741ه/1340م) وإلى جانب المدخل الشمالي توجد منارة ثالثة ترجع
إلى نهاية القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، وهى المئذنة الإسلامية
الحقيقية في جامع دمشق كما يري كريسويل.
أقدم مآذن المسجد الأموى بدمشق مئذنة قايتباي بجامع دمشق الأموى |
والمهم أنه لما
كان المسجد النبوى الجديد الذى بنى في نفس وقت أو قبيله زود بأربعة مآذن مربعة
الشكل على نسق أبراج المعبد القديم الذى أقيم في موضعه جامع دمشق، فقد ترواح رأى
الباحثين المحدثين في أن يكون أصل المئذنة إما برج الكنيسة أو برج الحراسة في بلاد
الشام، فأهم نماذج المآذن القديمة ذات الشكل المربع أو المكعب التي بقيت لنا حتى
الآن دون تغيير هي مئذنة القيروان، وإن كان تحديد تاريخها يترواح ما بين مطلع القرن
الثاني الهجرى/ الثامن الميلادي ومنتصف القرن الثالث الهجرى/ التاسع الميلادي.
مئذنة جامع القيروان |
وإذا كانت سلامة الحس تقضى بالتفكير فعلاً في أبراج بلاد الشام كأصل للمئذنة فلا بأس أيضاً أن يكون أهم اثر إسلامي قديم، وهو الكعبة الشريفة، قد ساهم في الإيحاء إلى بناء المسجد النوبى _ وهو عمر بن عبد العزيز _ بشكل المئذنة المربع أو المكعب، وهنا لا بأس أيضاً من التفكير في أبراج بلاد العرب الجنوبية، وخاصة الأبراج المربعة الشاهقة الارتفاع التي تسمى البتل، ووحداها بتيل، والتي يقول الهمدانى بشئ من المبالغة من غير شك أن الواحد منها كان يصل ارتفاعه إلى 200 ذراع وأكثر.
وان المرأة الأسطورية
الحادة النظر التي تعرف باسم زرقاء اليمامة كانت تنظر من أعلى واحد من هذه الأبراج
العربية الشاهقة الارتفاع إلى مسافة يوم أو يومين، من حيث إمكانية أن تكون هناك
علاقة قوية ما بينها وبين المآذن الإسلامية الأربعة الأولى المربعة الشكل،
والحقيقة أنه لما كانت عمارة المئذنة بارتفاعها الرأسي تخالف عمارة المسجد الأفقية
فإن المئذنة تعتبر حقاً عنصراً معمارياً ملحقاً بمبنى المسجد، وليست جزءاً أساسياً
منه.
ولهذا السبب
نجدها في المساجد الأولى مثل جامع دمشق وجامع القيروان تحتل وسط حائط مؤخرة الصحن،
في مقابل منتصف جدار القبلة من بيت الصلاة، حيث المحراب، أى على الطرف الآخر من الجامع، أما في سامراء في منتصف القرن الثالث الهجرى/ التاسع الميلادي فقد
خرجت المئذنة عن نطاق صحن الجامع وإن ظلت على محوره، هذا وإن كان المسجد النبوى في
المدينة ومسجد عمرو العتيق في الفسطاط قد تجمل كل منهما بأربع مآذن في أركانه
الأربعة.
موقع مئذنة جامع القيروان فى وسط مؤخرة الصحن |
والحقيقة أنه لما كانت المآذن لم تنتشر إلا بعد بناء مآذن المسجد النبوى بالمدينة بمعرفة عمر بن عبد العزيز، ولما كانت المآذن الأولى وخاصة في الفسطاط قد عرفت باسم المنائر، فإن ذلك قد ينقض نشأة المئذنة في دمشق على نسق أبراج كنائس الشام لصالح مصر، وذلك على نسق منارة الإسكندرية الشهيرة وقتئذ بأنها واحدة من عجائب الدنيا السبع، وعلى عهد والى مصر قرة بن شريك العبسي حوالى (92ه/710م)، وإن كانت هناك روايات أخرى تحدد بناء المنارات لجامع عمرو في مصر على عهد والى مصر مسلمة بن مخلد (53ه/672م) في خلافة معاوية.
صورة تقريبية لمنارة الإسكندرية القديمة |
فإطلاق اسم المنارة على المئذنة الأخيرة يعنى أن تلك الأخيرة قد غيرت من طبيعتها الأولى، وهى الآذان، وأصبحت تقوم بوظيفة المنارة أي الهداية والإرشاد للمسجد، وخاصة في الليل، وعلى الأخص في شهر رمضان حيث كان يقع على المسجد الجامع واجب الإعلان عن وقت الإفطار مساء ووقت الإمساك سحرا، وهكذا كانت تشغل القناديل في رأس المنارات مساءاً إيذاناً بحلول الإفطار، فيفطر الناس بعيداً على ضوء المنارة، كما يمسكون عن الطعام عندما ينطفئ ضوء القنديل سحراً، وهكذا استحقت المئذنة اسم المنارة بعد أن مارست وظيفة هذه الأخيرة من حيث الإعلان عن وقت الإفطار أو الإرشاد عن موضع الجامع ليلاً، هذا عن نشأـة المئذنة المربعة الشكل في طراز المسجد العربي الذى نشأ في المدينة وظل منتشراً في بلاد المغرب والأندلس دون أن يتأثر كثيراً بالطراز العباسي الذى نشأ في سامراء حوالى منتصف القرن الثالث الهجرى/ التاسع الميلادي والذى يتمثل في مئذنة جامع سامراء المعروفة بالملوية.
مئذنة جامع سامراء الملتوية |
والحقيقة أنه إذا كانت المئذنة في المسجد العربي الطراز تظهر وكأنها عنصر ملحق بعمارة الجامع، فإن المئذنة في طراز سامراء منعزلة تماماً خارج جدار المسجد، ولكن هذه الظاهرة لا تمنع من انسجام المئذنة الملوية مع العمارة العباسية الجديدة التي اخذت بمبدأ التدوير الهندسي منذ بناء بغداد بدلاً من التربيع الذى يغلب على العمارة الأموية، فالمئذنة بشكلها المخروطي، وطريق الصعود الخارجي الحلزوني مما يذكر بالمعابد الأشورية ذات الطبقات السبع المعروفة بالزيجورات، أو بالمنشآت الصينية في عهد اسرة تانج، وهي تنسجم مع العقود المتجاوزة، شبه الدائرية، وإذا كانت تأثيرات سامراء قد وصلت إلى مصر وخاصة في جامع احمد بن طولون ومئذنته، فإنها لم تتعد مصر إلى بلاد المغرب إلا قليلاً، ولا بأس أن يكون السبب في ذلك هو الاتجاهات السياسية الانفصالية التي عرفتها بلاد المغرب والتي جعلتها تنقطع على المستوى الرسمي على الأقل عن خلافة بغداد، وخاصة بعد قيام الدولة الفاطمية، وحدوث ما يمكن أن يسمى بالقطيعة بين المشرق والمغرب.
وهكذا تركزت
تأثيرات العمارة العباسية السامرائية في بلاد المشرق الإيرانية من فارس حتى أفغانستان
وبلاد ما رواء النهر، وذلك اعتباراً من مطلع القرن الخامس الهحرى/ الحادى عشر
الميلادي على عهد محمود الغزنوى، وعن هذا الطريق أصبحت المئذنة المدورة هي النموذج
المفضل في المساجد من الطراز الفارسي وكذلك الحال بالنسبة لأبراج الأضرحة ولقد
ظهرت منها نماذج مضلعة بديعة، منها ذات الضلوع المحدبة وذات الضلوع المقعرة، منها
ما كان ذا طبقات متعددة تضيق إلى أعلى مع الارتفاع، مثل منارة مسجد جام في أفغانستان،
ومن أجمل النماذج مئذنة قطب منار الشهيرة في دلهى بالهند.
وهذه المنارات
الفارسية الطراز هي التي تطورت في الأناضول لدى الأتراك العثمانين حيث ازدادت
نحافة فصارت شبيهة بالمسلة أو بالقلم الرصاص بقمته المخروطية الحادة المقتبسة من
النهايات الرمحية الشكل التي تتوج قمم الأبراج في الطراز القوطي من كنائس العصور
الوسطي الأوربية وعنصر النهضة.
مآذن جامع محمد على بالقلعة على شكل أقلام رصاص |
إرسال تعليق