قاهرة المعز قاهرة العواصم
نشأة القاهرة المعزية:
بعد أن دخل الفاطميين مصر بقيادة جوهر الصقلي في 17 شعبان 358هـ / 6 يوليو 969م وذلك بعد أن قضوا على الدولة الإخشيدية فكر جوهر الصقلي في بناء عاصمة جديدة للخليفة الفاطمي المعز لدين الله الذي لا يزال يقيم في بلاد المغرب، ويلاحظ أن بناء العواصم أصبح تقليد مع نشأة كل دولة(1).
ولكن بناء عاصمة جديدة للفاطميين بمصر كان له أهمية كبيرة خاصة عن أي دولة سابقة وذلك لنشر المذهب الشيعي في مصر وإرساء قواعده في البلاد حتى تكون مصر مركزا لنشره في باقي أرجاء العالم الإسلامي وذلك حسب المخطط الذي خطط له الفاطميين عند مجيئهم إلى مصر.
تأسيس مدينة القاهرة:
فى مساء ذلك اليوم(2) إختط جوهر موقع القصر الذى قرر أن يستقبل فيه المعز تنفيذا لأوامر سيده وحينما أتى أعيان الفسطاط فى الصباح التالى لتهنئته وجدوا أن أسس البناء الجديد كانت قد حفرت .
وبنى جوهر سورا خارجيا من اللبن على شكل مربع طول كل ضلع من أضلاعه 1200 ياردة وكانت مساحة الأرض التى حددها هذا المربع 340 فدانا منها نحو 70 فدانا بنى عليها جوهر القصر الكبير وخمسة وثلاثين فدانا للبستان الكافورى ومثلها للميادين والباقى وقدره مائتا فدان هو الذى وزع على الفرق العسكريه فى نحو عشرين خطة بجانبى قصبة القاهرة(3).
ونظرا لأن جوهر كان قد أسرع فى حفر أساس القصر بالليل فحدثت فيه إنحناءات غير معتدلة، فلما شاهدها فى الصباح لم يعجبه لكنه قال"قد حفر فى ليلة مباركة وفى ساعة سعيدة" وتركه على حاله(4).
وفى اليوم الذى خط فيه جوهر القاهرة أخذت كل قبيلة من القبائل الشيعيه التى تألف منها جيشه خطته، فإتخذت زويلة الخطة المعروفه إلى اليوم، وإختطت جماعة من برقه الحارة البرقيه وإختطت الروم حارتين البرانية والجوانية بقرب باب النصر(5).
وكان غرض جوهر من إنشاء القاهرة أن تكون معقلا حصينا لرد القرامطة عن مدينة مصر الفسطاط ليقاتلهم من دونها فأدار السور اللبن على معسكرات قواته وأنشأ من داخل السور جامعا وقصرا وإحتفر خندقا من الجهة الشمالية ليمنع إقتحام جيش القرامطة إلى القاهرة ومصر من ورائها(6).
أما القصر الذى بناه جوهر فقد أوضح إبن دقماق الغرض الذى رمى إليه جوهر فقال أنه بناه لمولاه حتى يكون هو وأعوانه وجيوشه بمعزل عن عامة الشعب(7).
موقع القاهرة الفاطمية القديم:
بعد أن فتح الفاطميين مصر سارت الجيوش الفاطمية ناحية الشمال لمسافة تقدر بأربعة كيلومترات وكانت هذه المسافة تشغلها البساتين كما كان بها منازل الضواحي، وكانت تتعرض للغمر بالمياه أثناء الفيضان فتنخلها برك الماء.
ثم إنتهى إلى الموضع الذي أنشئ عليه مدينة القاهرة وكانت عبارة عن سهل رملي لم يخل من بعض المناطق الصخرية المرتفعة يمر به الناي في طريقهم من الفسطاط إلى عين شمس على الشاطئ الشرقي للخليج، ولم يكن بهذا الموضع من مظاهر عمران كثيرة(8).
كانت مدينة القاهرة تقع شمال الفسطاط والقطائع وكانت وقت إنشائها محدودة المساحة تمتد من باب الفتوح شمالا إلى باب زويلة جنوبا، ويمر بوسطها شارع المعز الذي يضم حاليا 32 أثر إسلامي، ويحدها من الشرق جبال المقطم ومن الغرب الخليج الكبير ومن الجنوب مدينة القطائع(9).
أسماء مدينة القاهرة:
قد قيل أنه لما فرغ جوهر من بناء قصر الخليفة وأقام حوله السور، سمى المدينة فى أول الأمر بالمنصورية تيمنا بإسم مدينة المنصورية التى أنشأها خارج القيروان المنصور بالله والد المعز وإستمر هذا الإسم حتى قدم المعز إلى مصر فأطلق عليها القاهرة وذلك بعد مرور أربع سنوات على تأسيسها(10).
ومن الواضح كما أشارت "رايتماير" فى كتابها أنه يمكننا أن نجزم بأن القائد جوهر كان لديه تعلميات من الخليفه بأن ينشئ مدينة تكون للفسطاط بمثابه المنصورية للقيروان(11) أو بمثابه فرساى لباريس او وندسور للندن، ويلاحظ بهذه المناسبة ما ذكره البكرى من أن بابين من أبواب المنصورية كان يطلق على أحدهما باب زويلة والثانى باب الفتوح، وقد أطلق هذان الإسمان على بابين من أبواب سور مدينة القاهرة المصرية.
وفى يوم الثلاثاء السادس من شهر رمضان سنة 362هـ(10 يونيو 973م) لما وصل المعز إلى القاهرة على رأس أفراد أسرته تجاهل الفسطاط فلم يشقها وكانت قد زينت إبتهاجا لمقدمه، ثم قصد القصر الكبير وأمر ببناء مقبرة لدفن أجداده الذين إستحضر جثثهم معه فى توابيت، وفى آخر شهر رمضان أقام الصلاة بنفسه فى الأزهر وخطب خطبه العيد.
وكانت الصلاة قد أقيمت لأول مرة فى الجامع الأزهر فى يوم الجمعة لست خلون من رمضان سنة 361هـ(11يونيو972م)(12).
فكأن القاهرة المدينة المحصنة لم يقصد جوهر من إنشائها فى بادئ الأمر أن تكون قاعدة أو دار خلافه أو منزل ملك، بل إختطها لتكون سكنا للخليفة وحرمه وجنده وخواصه ومعقل قتال يتحصن به ويلتجئ إليه.
فنشأت القاهرة مدينة خاصة للدولة الفاطمية الناشئة وإستمرت حينا بعد قيامها مدينة ملكية عسكرية تشتمل على قصور الخلفاء ومساكن الأمراء ودواوين الحكومة وخزائن المال والسلاح.
ثم أصبحت بعد إنشائها بأربعة أعوام عاصمة الخلافة الفاطمية لما إنتقل إليها المعز وأسرته من المغرب ونزلوا فى القصر الشرقى الكبير، وإتخذ الخليفة مصر موطنا له، وكان ذلك فى يوم الثلاثاء 6 رمضان 362هـ الموافق 10 يونيو 973م(13).
ولم يكن لقاطنى مصر أن يدخلوا "القاهرة" إلا بإذن يسمح لصاحبه بدخول بوابات القاهرة وكان مفوضو الدول الأجنبية الذين يحضرون الحفلات الرسمية يترجلون عن جيادهم ويستقدمون إلى القصر بين صفين من الجنود على الطريقه البيزنطية وكانت أسوار القاهرة العاليه وأبوابها المحروسة تحجب الخليفة عن أنظار شعبه.
ولكن بمرور أعوام إتسعت المدينة الناشئة ونمت نموا كبيرا وبدأت القاهرة حياتها فى ظل الخلفاء الفاطمين وتبوأت مكانتها العظيمة برونقها وبهائها، ثم إتصلت فيما بعد بمصر الفسطاط وصارتا تؤلفان معا أكبر المدن الإسلامية فى العصور الوسطى(14).
اسباب تسمية القاهرة بهذا الاسم(15) :-
1: السبب الأول يقال أنه بدأ في بنائها عند طلوع كوكب القاهر.
2: السبب الثاني يقال أن المعز إختار هذا الإسم تفاؤلا منه بأن عاصمته الجديدة ستكون قاهرة العواصم والمدن السابقة لها جميعا وهو إسم يدل على القوة والمجد.
اسباب اختيار هذا الموقع للبناء(16):-
تشير المصادر التاريخية إلى أن الخليفة المعز لدين الله ترك لقائده جوهر أمر إختيار موقعها، ولكن الخليفة الفاطمي المعز لدين الله عندما قدم إلى مصر إنتقد جوهر الصقلي في إختياره لذلك الموقع، حيث أراد المعز أن يبني عاصمته في جنوب الفسطاط في منطقة تل الرصد.
والحقيقة أن الموقع الذي إختاره جوهر لمدينة القاهرة توافق مع التراث العمراني لعواصم مصر الإسلامية التي بدأت بالفسطاط ثم العسكر إلى الشمال منها ثم القطائع إلى الشمال الشرقي أيضا ثم القاهرة في إتجاه الشمال على بعد مسافة يتخللها كما ذكرنا البساتين والبرك، ويمكن الإستفادة من إتجاه الرياح الشمالي الجنوبي.
ونجد أن تلك المساحة كانت صالحة للإمتداد العمراني حيث تسع بين الجبل والنيل كلما إتجهنا شمالا وهو يوفر فرصة جيدة للإمتداد العمراني بتوفر الأرض السهلة الصالحة للبناء، كما أن وقوع تلال المقطم وبخاصة إلى الشرق من القاهرة والنيل غربها وفر ميزة تحصينية مهمة.
تخطيط مدينة القاهرة(17) :-
في ضوء الدراسات الأثرية وما ورد في المصادر التاريخية يتضح أن مدينة القاهرة في مرحلتها العمرانية الأولى عند تأسيسها إتخذت تخطيطا مميزا، فقد أنشئت هذه المدينة لتكون مدينة ملكية محصنة.
ويلاحظ أن تخطيط شبكة شوارعها كان عبارة عن شارع رئيسى يشق المدينة من الشمال إلى الجنوب، حيث تبدأ من باب الفتوح في الشمال وينتهي إلى باب زويلة في السور الجنوبي.
ويتفرع من هذا الشارع الرئيسى شوارع جانبية تخترق المدينة من الشرق إلى الغرب، وتتقاطع مع الشارع الرئيسى "قصبة القاهرة" في زوايا قائمة، وهذه الشوارع كانت تفصل بين المناطق التي خصصت لسكنى القبائل.
تلك المناطق التي عرفت بإسم الحارات، وكان لكل حارة من هذه الحارات مدخل أو إثنان على هذه الشوارع، ومساكن الحارة تطل في الداخل على شبكة أدق من الأزقة التي تفصل بين الدور.
وبهذا الأسلوب في التخطيط كانت كل حارة من الحارات تحتفظ بخصوصيتها، وكان لا يدخلها إلا سكانها حتى إذا أغلق الباب الخارجي للحارة ليلا تعذر دخلوها وسهل الدفاع عنها إذا هوجمت.
ونجد أن تخطيط مدينة القاهرة روعي فيه القواعد المقررة لتخطيط المدن التي وضعت في القرن الخامس قبل الميلاد والتي عمل بها اليونان والرومان في إمبراطوريتهم القديمة وهي مأخوذة في الأصل من المدن المصرية القديمة.
وقد أنشئت المدينة في الأساس لتكون حصنا ملكيا يقوى على دفع خطر القرامطة ثم بعد قدوم المعز لدين الله من المنصورية في تونس قاعدة للخلافة، ومن ثم كان تحديد المنشآت الأساسية وتقسيم الأرض وفق هذه الرؤية.
وقد بلغت مساحة القاهرة في المرحلة الأولي من إنشائها في عهد جوهر الصقلي 370 فدانا، شغل القصر الشرقي منها 70 فدان، وشغلت الميادين 30 فدان كما شغلت البساتين 30 فدان أيضا.
وقد شغلت الخطط السكنية والشوارع والطرقات مساحة 210 فدان، وبذلك يمكن أن نقول أن طبيعة المدينة في كونها مدينة ملكية أدت إلى توجيه تخطيطها نحو خدمة هذا الهدف، سواء فيما يتعلق بالقصر أو الميادين أو موقع المسجد.
كذلك مصلى العيد والحارات التي خصصت لسكنى الجند والحاشية، ونلمح هنا بوضوح في بعض السمات المتمثلة في وضع الجماع جنوبي القصر قريبا من باب زويلة الذي يربط القاهرة بالعواصم الإسلامية المصرية السابقة.
وذلك لتسهيل وصول من يريد صلاة الجمعة في هذا الجامع من أهل هذه المدن دون الولوج إلى منطقة القصر كذلك كان كبر مساحة القصر ثم بناء القصر الغربي مقابل له وعمل ميدان لإستعراض الجند بين القصرين.
وذلك التخطيط يرتبط بالرسم الملكي الذي سبق وأن إستقر في مدينة المهدية الفاطمية الأولى للفاطميين وهو توجه أكد على وجود الفاطميون في عاصمتهم الجديدة بمصر.
كذلك فإن وضع مصلى العيد خارج باب النصر وتخطيط الطريق الموصل إليها من القصر عن طريق باب العيد إلى طريق يؤدي إلى باب النصر ليصلي الخليفة ويعود من باب الفتوح وإلى القصر.
وقد تم ذلك حتى لا يعود الخليفة من نفس الطريق ويعود إلى القصر من طريق آخر غير الذي يسلكه في الذهاب إلى الصلاة تأسيا بالرسول الكريم، وذلك أمر يرتبط بسلوك ملكي للمعز.
حيث تشير المصادر التاريخية أن المعز كان حريصا كل الحرص على أداء السنن والإلتزام بها أحسن ما يكون الإلتزام لا بإعتباره مسلما فقط ولكن بإعتبار رغبته في التأكيد على نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[2] نقل بعض المؤرخين كما ذكر المقريزى أن إنشاء القاهرة كان فى 6 جمادى الأول سنة 359 فى نفس اليوم الذى إختط فيه جوهر الجامع الأزهر،ولكن معظم المؤرخين وفى مقدمتهم المقريزى يذكر التاريخ الذى شق فيه الفسطاط(17 شعبان 358هـ) ووضع فيه أساس القصر الكبير.
[4]الخطط المقريزية:(تقى الدين أحمد لن على بن عبد القادر بن محمد المعروف بالمقريزى) ت845هـ/1441م.
المواعظ والإعتبار فى ذكر الخطط والآثار، المعروف بإسم الخطط المقريزية، الجزء الثانى، مكتبة مدبولى،القاهرة،
الطبعة الأولى،1997 ، ص306
الطبعة الأولى،1997 ، ص306
[5] عبد الرحمن زكى:القاهرة تاريخها وآثارها من جوهر القائد إلى الجبرتى، دار الطباعة الحديثة،القاهرة،1966،ص10
[8] محمد عبد الستار عثمان: موسوعة العمارة الفاطمية ، الطبعة الأولي ، دار القاهرة ، القاهرة ، 2006، ص51.
[10] قيل فى سبب تسميتها أن القائد جوهر لما أراد بناء القاهرة أحضر المنجمين وعرفهم أنه يريد عمارة بلد خارج مصر ليقيم فيها الجند وأمرهم لاختيار طالع سعيد لوضع الأساس وطالع لحفر السور وجعلوا بدائر السور قوائم خشب بين كل قائميتين جعل فيها أجراسا وقالوا للعمال إذا تحركت الأجراس فارموا ما بأيديكم من الطين والحجارة فوقفوا ينتظرون الوقت الصالح لذلك،فإتفق أن غرابا وقع على حبل من الحبال التى فيها الأجراس فتحركت كلها فظن العمال أن المنجمين قد حركوها فالقوا ما بايديهم من الطين والحجارة وبنوا فصاح المنجمون"القاهر فى الطالع" فمضى فى وفاتهم ما قصدوه وقيل أن المريخ كان فى الطالع عن إبتداء وضع الأساس وهو قاهر الفلك فسموها القاهرة-المقريزى:الخطط المقريزية،الجزء الثانى،ص304.
[12] ذكر المقريزى أى فى الخطط (ط بولاق ج2 ص273) أن ذلك كان فى يوم الجمعة لسبع خلون من رمضان وهو خطأ لأن يوم 7 يوافق يوم السبت كما فى التوفيقات الإلهامية. وقد عنى المؤرخون بذكر أول صلاة جمعة تقام فى أيه مدينة إسلامية منذ عهد الفتوح،وحدث ذلك فعلا فى الجامع الأزهر يوم الجمعة لست خلون من رمضان سنة 361هـ الموافق 21 يونيو 972م،وهذا هو اليوم الذى ينبغى أن يحتفل فيه بعيد القاهرة.
[13] إن تصميم القاهرة الأصلى يوضح تأثر القائد جوهر والمعز بما رأياه فى أفريقيا الشمالية من التخطيط الرومانى فإنه يمكن التشبيه بين مدينة تمجد الرومانية ومدينة القاهرة من حيث وجود شارعين أساسين للكارد وماكسيموس والديكومانوس مكسيموس اللذان يقسمان المدينة إحداهما من الشمال إلى الجنوب منتهيا إلى طرق المواصلات للوجهين القبلى والبحرى مارا بالميادين الوسطى التى بها سراى الحاكم وخدمه وجنده وحدائقه بدلا من المعبد والليسيوم والأوديون الرومانى، وأما الطريق الثانى فيقسم المدينة من الشرق إلى الغرب أى من باب البرقيه إلى باب الوزير وكان ذلك الطريق ينتهى إلى الجامع الأزهر.
[14] عبد الرحمن زكى:القاهرة تاريخهاوآثارها من جوهر القائد إلى الجبرتى،ص12
[14] عبد الرحمن زكى:القاهرة تاريخهاوآثارها من جوهر القائد إلى الجبرتى،ص12
إرسال تعليق