(بقلم: عماد حمدي)
محراب مدرسة مجموعة المنصور قلاوون بالنحاسين |
أما أهم ما طرء
على بيت الصلاة في المسجد الأول فهو المحراب المجوف المخصص لوقوف الإمام في
الصلاة، والذى يحدد اتجاه الكعبة في منتصف جدار القبلة، والمعروف أن المسجد النبوى
لم يكن يحوى محراباً إذ كان يكتفي بغرس سهم أو رمح في منتصف جدار القبلة لتحديد
اتجاه الكعبة، والمتعارف عليه أن المحراب ظهر لأول مرة في المسجد النبوى عندما
أعيد بناؤه سنة (87ه/706م) بأمر من الوليد بن عبد الملك، وبإشراف عمر بن عبد العزيز الذى كان والياً للمدينة وقتئذ، ولما كان
الوليد قد استعان في البناء بالروم من أهل الشام الذين عملوا في الصحن وبالقبط من
أهل مصر الذى عملوا في بيت الصلاة، فقد قام جدل حول أصل المحراب، وقال البعض أن
القبط هم أول من بنوه وأصبح من المتفق عليه عند جمهرة الباحثين الأوروبيين أن
محراب المسجد منقول إما من حنية الهيكل أو الكورس في الكنيسة أو في بعض المعابد
اليهودية.
والحقيقة أن
الاختلاف الكبير بين حنية الكنيسة ومحراب المسجد، وإذا كان هناك وجه شبه بينهما من
حيث أن كلا منهما أشبه بنصف دائرة، فإن المهم في أمور العمارة ليس مجرد الشكل بل
الأهم من ذلك هو الوظيفة، فحنية الهيكل في الكنيسة تشغل مساحة كبيرة قد تصل إلى
ثلث حجم الكنيسة، وذلك أنه يوجد بها المذبح وتجرى فيها الطقوس التي يقوم بها رجال
الدين، وقد تجلس فيها جوقة المنشدين، بينما حنية المحراب الصغيرة ظهرت نتيجة وقوف
الإمام في منتصف الصف الأول، وذلك حتى لا يشغل وحده مكان الصف الذى يمكن أن يقف
فيه عشرات المصلين، ومن هنا يكون الاختلاف في الوظيفة، وبالتالي في النشأة بين
حنية الهيكل والمحراب، فالأول يشكل القسم الرئيسي من الكنيسة بينما الثاني ليس
أكثر من حنية صغيرة أو مشكاة في الحائط، الهدف من إقامتها ان لم نقل نحتها في حائط
البلاط الرئيسي في بيت الصلاة هو تحديد اتجاه القبلة قبل أن تكون من أجل وقف
الإمام عندما يؤم الناس في الصلاة، وهذا ما اتجه اليه عدد من كبار الدارسين
المحدثين من المدرسة الفرنسية.
والمعروف أنه قبل
ظهور المحراب المجوف عرف المسجد نوعاً من المحراب المسطح الذى ظهر في جدار القبلة
أشبه ما يكون بالباب الوهمى في ذلك الجدار والذى استمر في شكل المحراب الجصى الذى
ظهر في عمارة سامراء العباسية، وبقى لنا منه عدد من النماذج في جامع أحمد بن طولون
بالقاهرة، بعضها من العصر الفاطمي والبعض الآخر من العصر المملوكي، وهكذا لم يكن من
الغريب أن تذكر بعض النصوص وجود المحراب في جدار مسجد قباء منذ أيام الرسول
الكريم، وأن النبى كان يستخدم لوحة خشبية تقف على أرجل خشبية تسمى العنزة لتحديد
اتجاه القبلة، فكأنها محراب متنقل، أو أن يكون جامع عمرو بمصر عرف المحراب حوالى
منتصف القرن الأول الهجرى على أيام والى مصر مسلمة بن مخلد، وكذلك الأمر بالنسبة
لجامع القيروان، وأغلب الظن أن كل هذه المحاريب الأولى كانت من النوع المسطح.
ومن الواضح أن
المحراب المسطح هو الذى تطور إلى حنية مجوفة تتسع لوضوف الإمام وحده عندما يتقدم
الناس في الصلاة، ولقد وصلتنا نماذج من هذا المحراب الصغير من العصر الأموى،
منحوتة في الرخام المنقوش، وأعيد استخدامها في بعض المساجد العباسية الأولى في
العراق، والمهم هو أن
المحراب المجوف الذى استحدثه عمر بن عبد العزيز على عهد الوليد بن عبد الملك في
المسجد النبوى، نال عناية بالغة من الفنانين من معماريين ومزخرفين حتى أصبح
كالمذبح المسيحي، أقدس المواضع في المسجد الإسلامي، فلقد زادت استدارة حنية
المحراب قليلاً عن نصف الدائرة في كثير من المساجد، وزاد قطاعها الأفقى في مسجد
قربطة الجامع إلى شكل حدوة الفرس، كما زاد في الحجم حتى أصبح كالحجرة أو قاعة
العرش، كما سيظهر في مساجد الطراز الفارسي السلجوكي أو التركى العثمانى.
ولقد زودت
المحاريب بالأعمدة الرقيقة على جانبي المشكاة، كما زخرف أعلى الجوفة في كثير منا
لمساجد في شكل محارة، مما يرمز إلى الخصب والعطاء الذى يتمثل في اللؤلؤة، كما يري
بوركارت، أو زين بالمقرنصات البللورية الشكل، ولما كان عقد المحراب يجمل عادة
بآيات قرآنية تحض على إعمار بيوت الله، وبخاصة تلك الآية الت تقول: " كلما
دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا" فإننا نظن أن تسجيل تلك الآية بشكل
دارج في أعلى عقود المحاريب هو الذى أدى بالدارسين الأوربيين إلى التأكيد على
مقولة أن أصل المحراب يرجع إلى هيكل الكنيسة أو كورسها، قبل أن يتجه المتأخرون
منهم إلى تفهم أن المحراب نشأ في شكل مشكاة، نشأة إسلامية صرفة، تابعة من طبيعة
وقوف الإمام وحده في حيز صف بأكمله صار يشغله عشرات المصلين وربما المئات، عندما
استقل الإمام بالمحراب، وهكذا حق "لجرابار" القول: ان المحراب أصبح في
زمن قصير شكلاً مطلوباً لأسباب رمزية أو شعائرية"، أما بقية عناصر المسجد
فترك إنشاؤها لاختيار الناس.
إرسال تعليق